السبت، 17 يناير 2009

في ميزان النقد الأدبي


مشظاة بين الامكنة والعادات والاقاليم والمناخات, كانت حياة الشاعر الدبلوماسي عمر ابي ريشة, في البداية كان السفر في المكان لكن السفر لم يكن اختيارا اتاه بل كان قدرا ومصيرا.
كان دبلوماسيا من المشتغلين بالسياسة, وشاعرا تشرب الاحلام الكبيرة ايام كانت هشة طرية مشتهاة. هذا ما جاء على لسان الدكتور محمد لطفي اليوسفي في الندوة التي اقيمت في دار الكتب الوطنية في حلب والتي جمعها في كتاب صادر عن وزارة الثقافة نزيه خوري,بعنوان الشاعر عمر ابو ريشة.‏
كتب ابو ريشة القصيدة الغنائية وجرب القصيدة الملحمية والمسرحية الغنائية ( الاوبيرت) والشاعر في نظره رائد يقف في مقدمة بني قومه. واصفا الذي يشرف به الشعر:‏
شاخص الطرف في رحاب الفضاء
فوق طود عالي المناكب ناء‏
يرقب الفجر والندى مالىء برديه‏
والشعر مائج في الهواء‏
يرى محمد قجة هنا ان شعر ابي ريشة هو استجابة للواقع واستجابة لعدة هواتف لا سيما هواتف نفسه وهواتف الجماعة, هذا ما يقوله سالم المعوش, وهواتف نفس الشاعر كثيرة ومتنوعة. حيث نراه يقف خطيبا وشاعرا قبل ان يبلغ الثامنة عشرة من عمره, فقد احس برسالته في نصرة العرب والدفاع عنهم فها هو ذا في ( بنات الشاعر) وفي حفل تأبين الاخطل الصغير, يرسل كلماته مدوية فيقول:‏
وحش الغزاة تمطى في مرابعه‏
وشدقه عن لعاب الكيد منحسر‏
ينساب بالنهم الطاغي وشرته‏
مسنونة الناب لا تبقى ولا تذر‏
اما في قصائده الغزلية وسواها نجد اتساع الرقعة الرومنطقية في شخصيته, علاوة على الرمز والواقعية وسعة الخيال التي كانت تملأ شعره المليء بالحنين والرغبة والالم والفرح وهي شجون وفتون نجدها في قصيدته ( عودي ) عبر الحوار الطويل الذي يديره الشاعر بينه وبين حبيبته التي تبادره الى القول في مطلعها :‏
قالت مللتك, اذهب, فلست نادمة‏
على فراقك.. ان الحب ليس لنا‏
سقيتك المر من كأسي شفيت بها‏
حقدي عليك .. ومالي عن شقاك غنى‏
لكن يمضي وحيدا من غير عودة اليها فيقول‏
نسيت ما بي... هزتني فجاءتها‏
وفجرت من حناني كل ما كمنا‏
وصحت .. يا فتنتي! ما تفعلين‏
البرد يؤذيك عودي.. لن اعود انا‏
لقد احب ابو ريشة الطبيعة لحد التصوف وتوحد معها وراح يعبر من خلالها عن مشاعره, وهو يمنحها الحياة والقيمة- ولا يتخذها مجرد مادة للتصوير, بل هي حية متحركة-فيوظف الطبيعة في شعره ليرسم ثلاث لوحات للفجر والظهيرة والمساء, ويصور الكون في تحركه وتغيره, فيصور الفجر فيقول:‏
نهض الفجر مثقلا يتلوى‏
فوق صدر الطبيعة الخرساء‏
كما يصف الظهيرة التي تأتي لتعبر عن كسل ثقيل, فتضعف الحركة وتفتر :‏
هبط السهل والهجيرة تنقض‏
وتطوي مطارف الافياء‏
ويصف المساء الذي يبدو اكثر اثارة لما تعج به من الوان صاخبة وما تموج به من حركة فاجعة:‏
بلغ المنحنى فجاز مدى الطرف‏
بحس مفجع الانباء‏
الشاعر يعتمد على ثلاثة اساليب هي : القص والتصوير والمقارنة- لذلك نرى ان موقف الشاعر من الطبيعة في تعدده وتنوعه وغناه هو موقف اخلاقي يدل على طبيعة الحضارة العربية والثقافة الصوفية-هذا ما كان عليه بحث الدكتور احمد زياد محبك.‏
من جهته يذكر الناقد خليل الموسى في بحثه ان القصيدة عند ابي ريشة ذات بناء غنائي ملحمي,وثمة قصائد اخرى ذات بنية سردية من التراثين الديني والادبي, فمن التراث الديني قصيدة ( دليلة ) عام 1962 وهي من ستة مقاطع و 44 بيتا يسرد فيها الراوي حكايته مع غادة سناء,وعن قصيدته( شاعر وشاعر) فقد ألقيت في الجامعة السورية بدمشق في المهرجان الألفي لأبي الطيب المتنبي وهي مؤلفة من ثمانية مقاطع و 93 بيتا من وزن الخفيف - حيث يبدأ الراوي هذه القصيدة بمقدمة طويلة عن الشاعر وهي قصيدة تصح على المتنبي كما تصح على سواه من الشعراء.‏
وقصيدته الثانية بعنوان ( حاقد ) يحكي فيها قصة امرأة أحبها حبا عظيما, لكنها قابلته ببرود اعصابها فحقد عليها كذلك قصيدته بعنوان ( عزاء) وهي شبيهة بقصيدة (حاقد) في موضوعها واحساساتها .‏
فيما نجد شخصيات عمر في قصائده تتوزع بين البطولة الملحمية مثل (محمد - خالد - فدائى) والبطولة التراجيدية ( بلبل-نسر) وهذا يعني انه ينطلق دائما من القيم العظيمة التي تميز بها اجداده العرب الميامين وحديثه عن البطولات الجماعية والفردية هو اقرب الى شعراء مدرسة الاحياء في هذا المجال - ونجد في قصائده تماسكا وقصرا وتكثيفا مع ان الايقاع السردي كان وما يزال سببا رئيسياً في طول القصيدة من حيث الحجم , وهذا يثبت انه من شعراء القصيدة القصيرة غالبا وانه اولى جماليات الصياغة اهتماماته - فهو يميل الى مدرسة الاحياء في امرين: اولهما انه يستلهم التراث للتعبير بوساطته عن تجربة معاصرة, وثانيهما انه يميل الى الوضوح والتفسير والرمزية تنأى عنهما .‏
الناقد العراقي عبد الواحد لؤلؤة تحدث عن جماليات الابداع في شعر عمر ابي ريشة-والملامح الرومانسية-في سيرة الشاعر ويخبرنا ان والده ارسله الى مانشستر البريطانية ليدرس (كيمياء الاصباغ والنسيج)- لكن الشاعر تغلب على الصناعي فيه, فانقلب الى دراسة الادب الانكليزي ولانعرف كم من ذلك الادب استوعبه عمر في اقامته القصيرة في بريطانية التي غادرها دون اكمال دراسته-لكن موهبة الشاعر كانت اكبر من ثقافته او خبرته لقد كان ابو ريشة محقا في قوله ان ما يبدو في شعره من اطياف الغرب ( انما هو ) نوع من الاثر والتأثر من غير قصد لدى قراءة قصيدة افرست:‏
اليك غير الظن لا يرتقي‏
يا عاصب الغيم على المفرق‏
لأنت مجلى الارض في شوقها‏
الى البعيد المترف الشيق‏
لكن الرومانسية في قصيدة ( بلبل ) تقوم على الايحاء دون البوح وعلى التأمل دون الخطابية المنبرية:‏
حلم تخلى عنه في رغده‏
هل يقدر النوح على رده‏
لو يعلم الصياد ما صيده‏
لم يجعل البلبل في صيده‏
وعن العلامات على شعرية ( عمر ابو ريشة ) يذكر الناقد المصري صلاح فضل:‏
ان جديلة الضوء في شعرية ابي ريشة تتألف من ثلاثة خصلات مضفورة يغلب عليها الشغف بالانثى فيما لا يعتبر من قبيل الوله العاطفي الحاد.‏
يدرج شعر ابي ريشة في سياق التيار الرومانسي ا لذي كان غالبا على ابناء جيله - خاصة ممن بلغوا مراحل نضجهم الفكري والابداعي-لكن السمة المائزة لشعريته في هذا الاطار اكثر تعقيدا من ان تحمل في كلمة واحدة, فهناك رومانسيات عربية مخالفة لنظائرها الغربية- والطريف ان ابا ريشة كان يمتلك شهوة التغير والاصلاح.‏

ثناء عليان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق