السبت، 17 يناير 2009

هل خيبت القصيدة الشعراء فكتبوا الرواية؟

لا يحدث التنكر للتاريخ الشعري إلا إذا كان صاحبه غير شاعر، وهو بالتالي لا يتنكر لشيء ذي قيمة، كما يصرح بذلك أحمد يوسف داوود، غير أن الحقيقة الأخرى أيضاً، هو أن ثمة ميل لشعراء اليوم باتجاه غواية السرد، سيما الرواية تحديداً حتى بات الأمر يشكل ظاهرة غالباً ما يكون سبب الانتقال هذا من القصيدة إلى الرواية بفشل في اصطياد الأولى، كما يرى عمر قدور، أو قد تكون دائرة الشعر قد أغلقت تماماً كما يرى ذلك خليل صويلح عن هذا الميل للشعراء صوب الرواية، كانت محاولتنا في هذا التحقيق، ومعرفة الأسباب الكامنة وراء غواية السرد للشعراء.

اقتحام السرد

بالنسبة لكتابة الشاعر للرواية فنادراً ما يكون سببه التخلي عن الشعر، وإنما هي غواية اقتحام عالم السرد الروائي كما يرى الشاعر والروائي أحمد يوسف داوود حيث يمكن للكاتب أن يطرح قضايا ورؤياتٍ متنوعة ومشكلاتٍ مختلفة في بناءٍ فنيٍّ متكاملٍ وواسع كالبناء الروائي، وعموماً إذا كان الشاعر – وأنا هنا اعني الشاعر الأصيل- على التمكن من الأداء الروائي في سياق بنيانٍ فنيٍّ متماسك فأنه قد يقدم نمطاً روائياً أجود لأن الشعرية في الرواية إذا أحسن استخدامها وتوظيفها جيداً تصبح اللغة فيها قادرة على إعطاء المزيد من الدلالات والإيحاءات الأعلى أثناء عملية السرد.
ويضيف: يحق للشاعر أن يجرب كتابة مختلف الأجناس الأدبية كما يحق لغيره أن يجرب الشعر وسواه ذلك أن كل جنس أدبي يمكن أن يفرض نفسه في وقت ما وظرف ما على الأديب أو المبدع.
فالشاعر مثلاً في لحظةٍ معينة قد يشعر أن القصيدة تضيق عن تقديم مجموعة تمثلاته للواقع والرؤى الناجمة عن مشكلاته، فهو يحتاج إلى بنيانٍ فنيٍّ دراميٍ أوسع من طاقة القصيدة حتى لو كانت ملحمية، وفي لحظةٍ أخرى قد يجد نفسه مثلاً محتاجاً لكتابة المقالات النقدية أو السياسية أو سواها.. مثلما نرى أن الروائي أو القاص قد يُقدم على كتابة الشعر أو النقد والأمثلة أكثر من أن تُحصى، مثلاً عن وليد إخلاصي فهو من أهم الروائيين السوريين أن لم أقل أهمهم ومع ذلك فهو مسرحيٌ وقاص وكاتب مقالات، ولكنه لم يكتب الشعر، من جهتي سأشير إلى عدداً من الشعراء الأصدقاء السوريين الذين كتبوا الرواية منهم بندر عبد الحميد، وقد كانت روايةٍ مبكرة ثم لم يكررها وظل شاعراً وهو شاعر مهم، كذلك عادل محمود نشرت له في العام الماضي روايته الأولى وفازت في مسابقة الرواية في دولة الإمارات، وخليل صويلح مثالٌ ثالث بدأ شاعراً ولا يزال يكتب الشعر، ولكنه كتب روايتين جميلتين في سياق ذلك دون أن يغادر وضعه كشاعر جيد مثلما يكتب المقالات الأدبية وغيرها، هؤلاء الشعراء أمثلة دالة على الرأي الذي سبق أن قلته لمن كتب الرواية دون أن يتنكر للشعر، وأعرف في الوطن العربي من تخلى عن الشعر بعد أن أثبت موقعه فيه لصالح كتابة الرواية.
لكن داود يعترف بالنهاية بما يشبه الإقرار فيذكر: وإذا أردت أن نقارب الموضوع من وجهة نظر أخرى فالحقيقة أن الشعر لم يعد له ذلك الوهج الذي كان حتى السبعينيات، أما الرواية فتبدو كأنما قد احتلت المرتبة الأولى في ساحة الإبداع الأدبي، وبذلك حلت محل الشعر وأصبح الكثيرٌ يحلمون أن يكونوا من كتابها لكنها تظل فناً صعباً يحتاج إلى مواهب استثنائية في مجال الإبداع الأدبي لإنتاج أعمال مميزة فيها كجنس أدبي.

دائرة الشعر
أما خليل صويلح: الذي بدأ شاعراً ثم غابت القصيدة عن إبداعه بعد انجازه ثلاث روايات لكنه كتب الرواية بأدوات القصيدة أو الشاعر ويجيب: بات السؤال مضجراً، لفرط تكراره، ذلك أن المهم في الأمر هو قيمة النص المكتوب بصرف النظر عن جنسه الإبداعي.
شخصياً أحسست بلحظة ما، أن دائرة الشعر أغلقت تماماً بالنسبة لي، بعد ثلاث مجموعات شعرية، المسألة إذاً، تتجاوز لقب "شاعر"، هذا اللقب الذي يحلم به كثر، ربما كاستمرار لبهجة عبارة "شاعر القبيلة". شاعر اليوم لا يقنع سكان الزقاق الذي يقطن، نظراً للوفرة الكبيرة في سوق عكاظ.
الكتابة متعة أولاً وأخيراً. لنقل أنني أحسست بمتعة مضاعفة وأنا أقتحم حقل السرد، فكانت روايتي الأولى "ورّاق الحب" التي حققت لي توازناً نفسياً يتجاوز آلام الشعر بمراحلٍ.
لقد فقدت رغبتي بالكتابة عن الغرفة والرصيف والمرأة العابرة والقرى البعيدة.
في الرواية سعيت لجمع كل هذه المفردات في نص واحد بالاستفادة من جماليات قصيدة النثر، بمعنى ما، ظلت أدوات الشاعر تحوم في متن الرواية، ثم أن العزل القسري بين الأجناس الإبداعية نوع من الانتهاك لحرية المبدع في مزج ما يراه مناسباً في مختبره الكتابي، لنكتب ما نشاء، ولندع التسمية لهذا النص أم ذاك على الرّف.
حسناً طالما لدي هذا الشغف بكتابة الرواية، لماذا لا أكتبها اليوم.
أرغب بأن أخرج فيلماً سينمائياً، وقد حققت تجربة صغيرة في هذا المجال فعلاً، والآن هل سأواجه بسؤال: لماذا هجرت الرواية إلى السينما؟
فن الصبر

وإذا كان خليل صويلح قد غلبت عليه صفة الروائي على الشاعر حتى كادت هذه الصفة تُنسى عنه، فإن انتصار سليمان وبعد كتابة روايتها "البرق وقميص النوم" لا تزال صفة الشاعرة عالقة بها بقوة تذكر انتصار: دائماً نقول عن القصيدة المبدعة أنها تكتبنا ولا نكتبها، وبالنسبة لي لا أتقن صناعة الشعر حتى الآن، إذ أنني من هؤلاء القائلين تكتبني القصيدة، فلا أتدخل في بناءها إلا قليلاً، أحس أنها العالم النوراني الذي يكشف عن داخلي الإنساني يخترقني كوميضٍ فتضاء تلك الأقبية والكهوف ببريق الكشف وبالتالي دائماً أشعر أن الكتابة الأولى للقصيدة هي الأجمل.
أما بالنسبة للرواية فهي ذات عوالم آخري مختلفة إذ أن بناءها يتحول إلى تعلم فن الصبر إذ أنني أكتب الرواية كدفقة الشعرية في المرة الأولى، ولكنني أعود إليها في كتابات أخرى لأضيف لها الأساليب الفنية لكتابتها أو لتكملة رسم بعض شخصياتها وتعديل بعض الحوارات فيها، ولكن قلما أتناسل من خطها الأساسي خطاً آخر، وعن فحوى السؤال لماذا يتحول الشعراء إلى كتابة هذا النمط؟ أقول بالنسبة لي لا أميز بين الأنماط الإبداعية، ولطالما يستطيع المبدع أن يقدم رؤيته بهذه الطريقة أو تلك فهذا ليس بدافع النكران للشعر بل أعتقد أن هناك مساحة للبوح لديه يتسع صدر الرواية لتقديمها وبالتالي تقديم رؤيته بشكل موسع أكثر، فالرواية نمط إبداعي يشدّ الشاعر لاختراق عوالمها، وفي بعض الأحيان تأخذه من الشعر لأنها أيضاً يتسع بناءها الفني لتقديم حوارات مطولة بطريقة شعرية، أو خطابٍ مسرحيٍ أو منولوج داخلي بعكس الشعر الذي لا يتحمل السرد، إذاً التنكر للشعر ليس وارداً في هذا المقام بالنسبة لي لأنه صوت حوهريا الإنساني والذي فيه أصرخ صرختي المقتضبة المدّوية، والرواية هي جوقة الأصوات التي تعتلي منصة بوحي، فمنها الخافت، ومنها المرتفع في زحمة الضجيج وفيها رؤى المستقبل وانتقاد الواقع والحكم على التاريخ بتلك الأصوات، ومن أفواه أبطالها الذين أتقمص أحلامهم وخيباتهم ننسج البناء الروائي الذي يشدنا للغوص في أعماق النفس البشرية بأبطال نراهم ونتكلم معهم أينما ذهبنا.
الفشل في الشعر

أما عمر قدور الذي بدأ شاعراً متمكناً، لكنه انهمك بالرواية فيذكر بكثير من الجرأة الأسباب ربما تكون الحقيقة لهذا الميل للشعراء صوب الرواية فيجيب: لماذا يتحول الشعراء إلى كتابة الرواية؟ هذا السؤال لا يٌوجّه إلى كتّاب القصة مثلاً، وكأنّ من الطبيعي لقاصّ أن يكون مشروع روائي، بينما يُستغرب ذلك من شاعر!. في الواقع لا يندر وجود كتّاب كتبوا، أو يكتبون، في جنسين أدبيين؛ نرى هذا في الأدب العربي، كما في الأدب العالمي. من جهة أخرى لا بأس في نأخذ بالحسبان ازدهار فنّ الرواية على المستوى العالمي والمحلي ما يزيد في عدد قرّائها وكتّابها، سواء أتى هؤلاء الكتّاب من الشعر أو من جنس أدبي آخر. في المقابل ثمة تراجع ملحوظ لناحية الاهتمام بالشعر وتسويقه، وتراجع الاهتمام هذا أدى، ويؤدي، إلى عزوف بعض الشعراء عن نشر مجموعات شعرية، وأحياناً عزوفهم عن كتابة الشعر، وفئة قليلة منهم اتجهت إلى كتابة الرواية. ولكي لا نبقى في العموميات؛ هناك شعراء ذوو تجربة متواضعة في الشعر اختاروا الانتقال إلى كتابة الرواية، وهناك أيضاً شعراء أثبتوا جدارة في الشعر والرواية؛ أنوّه على سبيل المثال بتجربة الكاتب خليل الرز، فهو صاحب تجربة متميزة في الرواية السورية وكاتب نصّ شعري متميز، رغم أنه لم ينشر شعراً منذ فترة طويلة. إذن قد يؤدي الفشل في جنس أدبي إلى الانتقال إلى جنس آخر، وقد يبحث الكاتب عن مساحات تعبيرية أرحب فتتنوع خياراته الأدبية، شأن الشاعر في ذلك كشأن أي أديب آخر. على نحو شخصيّ؛ لم أفكر بالانتقال من الشعر إلى الرواية، فما زلت أكتب الشعر والرواية، ولأن تسويق الرواية أسهل عموماً فقد أدى هذا إلى نشر ثلاث روايات لي في الوقت الذي لم أصدر فيه مجموعة شعرية جديدة، على الرغم من وجود مجموعتين جاهزتين للطباعة، أقرّ بواقع الحال مع الأسف. أؤكد على أنني لم أفكر بترك الشعر لصالح الرواية، وعندما كتبت الرواية الأولى تم الأمر بعفوية، إذ خطرت لي فكرة الرواية، وباشرت بكتابتها على نيّة تمزيقها إن لم أشعر بالرضا عنها. استمتعت بالتجربة الأولى، ومن ثم أصبح لديّ ما أدعوه بمشروع روائي متواضع، واكتشفت أن تجربتي في كتابة الشعر أسعفتني في كتابة الرواية، سواء على صعيد اللغة، إذ كان من السهل عليّ الابتعاد عن أية شعرنة للنصّ، أو على صعيد البناء الذي لم يبقَ أسير سرد تقليدي. في المقابل أزعم أن ما كتبته من نصوص شعرية بعد تجربة الرواية اغتنى باقتراحات لم أفكر بها من قبل، مثل تجربة السرد في الشعر، أو التخلص أحياناً من الغنائية الدارجة في الشعر. سيكون من نافل القول أن أشير إلى أنّ لكل تجربة خصوصيتها، لذا لا يحقّ لي تعميم، أو تنميط، ظاهرة من هذا القبيل، إن كنّا حقاً، أمام ما يشكّل ظاهرة..!!
ثناء عليان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق